segunda-feira, 14 de junho de 2010
segunda-feira, 31 de maio de 2010
سَعَةُ صَدْرِكَ رِفْعَةٌ لِـقَدْرِكَ
سَعَةُ صَدْرِكَ رِفْعَةٌ لِـقَدْرِكَ
خطبة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
سَعَةُ صَدْرِكَ رِفْعَةٌ لِـقَدْرِكَ
الحَمْدُ للهِ الذِي حَثَّنَا عَلَى العَفْوِ والحِلْمِ، وجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مُقتَضَياتِ العَقلِ والعِلْمِ، سُبْحَانَهُ يَغْفِرُ فَيَسْتُرُ عَلَى عَبْدِهِ المُنِيبِ ذُنُوبَهُ، ويَحْلُمُ فَلاَ يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ، ويُكْرِمُ فَيُضَاعِفُ المَثُوبَةَ، أَحْمَدُهُ تَعالَى بِمَا هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، مَنْ عَفَا وصَفَحَ ابتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ؛ غَفَرَ اللهُ لَهُ وأَوْرَثَهُ جَنَّاتِهِ، حَيْثُ قَالَ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ: ((وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))(1)، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِكُلِّ عَزِيمَةٍ وَمَضَاءٍ، وقَابَلَ الإِيذَاءَ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ والإِغْضَاءِ، -صلى الله عليه وسلم- وعَلَى آلهِ وأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، والتَّابِعينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْد، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ المُؤمِنَ الحَقَّ هُوَ مَنْ يَتَّسِعُ صَدْرُهُ لِهَفَواتِ الآخَرِينَ، وأَغْلاَطِ الجَاهِلينَ، فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ مُلْتَمِساً لَهُمُ الأَعْذارَ وإنْ فُقِدَتْ، بَاحِثاً لَهُمْ عَنِ المُبَرِّراتِ وإِنْ عُدِمَتْ، شِعَارُهُ الذِي لاَ يَبتَعِدُ عَنْهُ ولاَ يُفَارِقُهُ، بَلْ يُلاَزِمُهُ دَائماً ويُرَافِقُهُ: ((صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، واعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ))، وهُوَ شِعَارُ الأَنْبِياءِ، وسَبِيلُ العُقَلاَءِ، ومَنْهَجُ النُّبَلاَءِ، لِهَذَا أَمَرَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ))(2)، وَقَدْ فَسَّرَها جِبْريلُ عَنْ رَبِّ العَالَمِينَ فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَعفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ))، ولَقَدْ ضَمِنَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِكُلِّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وتَحَلَّى بِتِلْكَ السِّمَاتِ جَزاءً عَظِيماً وأَجْراً كَرِيماً، فَقَالَ تَبارَكَ وتَعالَى: ((فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ))(3)، ولاَ يَعقِدُ النِّيَّةَ عَلَى العَفْوِ والصَّبْرِ ويَثْبُتُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ قَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ، وتَفَوَّقَتْ عَلَى نَفْسِهِ إِرَادَتُهُ، فَاعتَبَرَ إِسَاءَةَ أَخِيهِ لَهُ هَفْوَةً وَزَلَّةً وكَبْوَةً، فَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْها، ولَمْ يَبقَ فِي قَلْبِهِ أثَرٌ مِنْها، بَلْ ارتَقَى وتَفَوَّقَ، وسَما وتَأَلَّقَ، فَقَابَلَ إِسَاءَةَ أَخِيهِ الإِنْسانِ بِالصِّلَةِ والمَحَبَّةِ والإِحْسَانِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ))(4)، إنَّ كَظْمَ الغَيْظِ عِنْدَ حُدوثِ دَواعِيهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، ومَنزِلَةٌ رَاقِيَةٌ، وأَعلَى مِنْها وأَرقَى، وخَيْرٌ وأَبقَى، العَفْوُ عَمَّنْ أَسَاءَ، وأَعلَى مِنْهُما وأَرقَى دَرَجَةً الإِحْسَانُ إِلَيهِ، لِهَذَا أَعَدَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِِمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ، وتَرَقَّى فِي هَذِهِ الدَّرَجاتِ جَنَّاتٍ يَتَبَوَّأُ فِيها أَعلَى الدَّرَجاتِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))(5)، ويَقَولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُشْرِّفُ اللهُ بِهِ البُنْيَانَ ويَرفَعُ بِهِ الدَّرَجاتِ؟ قَالوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: تَحْلُمُ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْكَ، وتَعفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ)).
أَيُّها المُسلِمونَ :
كَمْ عَدَاوَةٍ تَأْصَّلَتْ، وطَالَ أَمَدُها فَتَمكَّنَتْ، حَتَّى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ألاَّ أَمَلَ فِي الإِصْلاَحِ ولاَ رَجَاءَ، أَحَالَها التَّسَامُحُ والتَّعَامُلُ بِالتِي هِي أَحْسَنُ إِلَى صَدَاقَةٍ مَتِينَةٍ، ومَحَبَّةٍ مَكِينَةٍ، تَحَطَّمَتْ أَمَامَها كُلُّ العَوائِقِ والسُّدودِ، وانْمَحَى بِسَبَبِها كُلُّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الإِعْراضِ والصُّدُودِ، يَقُولُ اللهُ الوَاحِدُ المَعْبُودُ: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))(6)، وقَدْ سُئِلَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ هَذِهِ الآيَةِ مَا مَعْنَاها؟ فَقَالَ: ((هُوَ الرَّجُلُ يَشْتُمُهُ أَخَوهُ فَيَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فَغَفَرَ اللهُ لِي، وإِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَغَفَرَ اللهُ لَكَ))، لَقَدْ بَلَغَ رُسُلُ اللهِ -عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- مِنْ سَعَةِ الصَّدْرِ مَبلَغاً جَعَلَهُم يَردُّونَ عَلَى أَقْذَعِ الشَّتَائِمِ وأَسْوأِ العِبَاراتِ، بِالصَّفْحِ الجَمِيلِ وأَسلَمِ الكَلِماتِ، لَقَدْ اتَّهَمَ قَوْمُ نُوحٍ نُوحاً -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بِالضَّلاَلِ، فَلَمْ يَزِدْ رَسُولُ اللهِ نُوحٌ عَلَى أَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِنَفْيِ الضَّلاَلَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وإِعلاَمِهِمْ بِرِسَالَتِهِ، دُونَ أَنْ يَصِمَهُمْ بِلَفْظٍ جَارِحٍ، أَو يَعِيبَهُمْ بِعَيْبٍ قَادِحٍ، لَقَدْ قَالُوا لَهُ: ((إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))(7)، فَأَجَابَهُمْ: ((يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))(8)، واتَّهَمَ قَوْمُ هُودٍ هُوداً -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَرَمَوْهُ بَالسَّفَاهَةِ والكَذِبِ، فَأْحْسَنَ رَسُولُ اللهِ هُودٌ المَقَالَةَ، ولَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ السَّفَاهَةَ، وأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الرِّسَالَةَ، لَقَدْ قَالَ لَهُ قَومُهُ: ((إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ))(9)، فَأَجَابَهُمْ: ((يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))(10)، وَكَانَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- يَتَعَرَّضُ أَحْياناً لِسَفَاهَةِ بَعْضِ السُّفَهاءِ؛ فَيُقَابِلُ سَفَاهَتَهُمْ بِكَلِمَاتٍ تَنْضَحُ حَنَاناً ولُطْفَاً، وشَفَقَةً وعَطْفاً، لَقَدْ أَلْجَأَ بَعْضُهُمْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى حُفْرَةٍ فَوَقَعَ فِيها؛ مِمَّا أَدَّى إِلَى إِدْمَاءِ وَجْهِهِ وكَسْرِ رُباعِيَّتِهِ، فَبَدَلَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ دَعَا لَهُمْ بِأَنْ يُصلِحُ اللهُ أَمْرَهُمْ، وزَادَ فِي سَعَةِ صَدْرِهِ فَعَذَرَهُم، فَقَالَ: ((اللهُمَّ اهْدِ قَومِي فَإِنَّهُم لاَ يَعلَمُونَ)) ، ورَمَاهُ البَعْضُ مَرَّةً بِعَدَمِ العَدْلِ فِي قِسْمَةٍ قَسَمَها فَقَالَ لَهُ: اعْدِلْ، فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةً مَا أُرِيدَ بِها وَجْهُ اللهِ، فَلَمْ يَزِدْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَوابِهِ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ قَالَ لَهُ: ((وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلْ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟))، وَذكَّرَ نَفْسَهُ بِمَا رُمِيَ بِهِ فَقَالَ: ((خِبْتُ وخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ)).
أَيُّها المُسلِمُونَ :
إِنَّ سَعَةَ الصَّدْرِ وضَبْطَ النَّفْسِ حِينَ يَتَعرَّضُ الإِنْسَانُ لِلَفْظَةٍ مَاجِنَةٍ، وكَلِمَةٍ مُستَهْجَنَةٍ، هِيَ شَارَةُ الجَمَالِ الخُلُقِيِّ والاعتِدالِ النَّفْسِيِّ، ولِذَلِكَ وَضَعَها اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي مُقَدِّمَةِ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحمَنِ، فَقَالَ كَما جَاءَ فِي سُورَةِ الفُرقَانِ: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً))(11)، فَكَلِمَةُ "سَلاَماً" سَلِمَ الإِنْسَانُ بِها مِنَ الإِثْمِ، وسَلِمَ بِها مِنَ الَّلوْمِ، وسَلِمَ بِها مِنْ سُوءِ العَاقِبَةِ، وبَرْهَنَ بِها عَلَى تَمتُّعِهِ بِآدَابٍ عَالِيَةٍ، وتَحَلِّيِهِ بِأَفْكَارٍ ثَاقِبَةٍ، وأَنَّهُ صَاحِبُ نَفْسٍ كَبِيرَةٍ حَمَتْهُ مِنْ أَنْ يَهْبِطَ ويَهْفُوَ، وحَمَلَتْهُ عَلَى أَنْ يَصفَحَ ويَعفُوَ، إِنَّ الوَقْتَ عِنْدَ هَذَا الإِنْسَانِ العَاقِلِ غَالٍ وثَمِينٌ ونَفِيسٌ، لِذَلِكَ ضَنَّ بِهِ عَنْ أَنْ يُضَيِّعَهُ فِي رُدودٍ لاَ طَائلَ مِنْ وَرائِها، ولاَ جَدْوَى مِنْها، فَآثَرَ السَّلاَمَةَ بِالإِعْراضِ عَنْها، حَيْثُ هِيَ لَغْوٌ وهَدْرٌ لِلأَوقاتِ، لاَ يَجنِي المَرءُ مِنْ وَرائِها إِلاَّ النَّدَمَ والحَسَراتِ، ورَحِمَ اللهُ مَنْ سَكَتَ فسَلِمَ، أَو قَالَ حُسْناً فَغَنِمَ، لَيْسَ عَلَى صَوابٍ مَنْ يَعتَقِدُ أَنَّ سَعَةَ الصَّدْرِ وعَدَمَ الإِسَاءَةِ إِلَى مَنْ أَسَاءَ ضَعفٌ ومَهَانَةٌ، وذُلٌّ واستِكانَةٌ، ودُنُوٌّ فِي المَكَانَةِ، فَهَذا الإِعتِقادُ قَلْبٌ لِلأُمُورِ، إِذِ الحَقُّ والصَّوابُ هُوَ العَكْسُ، إِنَّ القُوَّةَ التِي يُثَمِّنُها الإِسلاَمُ ويَرفَعُ قَدْرَها ويُعظِمُ أَمْرَها ويَدْعُو إِلَيْها ويَحُثُّ عَلَيْها، هِيَ أَنْ يَقْوَى الإِنْسانُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الغَضَبِ؛ فَيُمْسِكُ زِمَامَها ويَشُدُّ لِجَامَها، لِيَحُولَ بَيْنَها وبَيْنَ شَهْوَةِ الانْتِصَارِ لَهَا، فَرُبَّ مُرِيدٍ للانْتِصارِ تَجَاوزَ الحَدَّ وَضَلَّ المَسَارَ، فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى البَوارِ والخَسَارِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّما الشَّدِيدُ الذِي يَملِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ))، وقَالَ عَلَيٌّ -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ-: ((إِذَا قَدَرْتََ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ العَفْوَ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ))، وقِيلَ: ((مَا قُرِنَ شَيءٌ إِلَى شَيءٍ أَزْيَنُ مِنْ حِلْمٍ إِلَى عِلْمٍ، ومِنْ عَفْوٍ إِلَى قُدْرَةٍ)).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَوَسِّعوا صُدَورَكُم؛ يُصلِحِ اللهُ أُمُورَكُم، ويُجْزِلْ لَكُمْ أُجُورَكُم، واعلَموا أَنَّ سَعَةَ الصَّدْرِ عُلُوُّ مَكَانَةٍ ورِفْعَةُ قَدْرٍ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ الغَضَبَ غَرِيزَةٌ فِي الإِنْسَانِ تَدْعُوهُ إِلَى دَفْعِ المُؤذِياتِ قَبلَ وقُوعِها، أَو الإِنْتِقامِ بَعْدَ حُدوثِها، ولَو تُرِكَ الأَمْرُ لِهَذِهِ الغَرِيزَةِ تَشُقُّ طَرِيقَها وتَأْخُذُ مَجْرَاها دُونَ إِصلاَحٍ وتَنقِيَةٍ وتَهْذِيبٍ وتَرقِيَةٍ، لَعَرَّتِ الإِنْسَانَ عَنْ عَقْلِهِ، فَلاَ تبقَى لَهُ بَصِيرَةٌ، وحِينَئذٍ قَدْ يَتصَرَّفُ تَصَرُّفاً أَو يَقُولُ كَلاَماً يُدَمِّرُ حَاضِرَهُ، بَل رُبَّما مُستَقبَلَهُ ومَصِيرَهُ، ورُبَّما صَارَ مِنَ العُصَاةِ المُعَانِدينَ، بِسبَبِ مُخالَفَتِهِ لأَوامِرِ اللهِ وأَوامِرِ إِمَامِ المُهتَدِينَ -صلى الله عليه وسلم- ، فَعَنْ سُلَيْمانَ بنِ صَرْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: استَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ أَحَدُهُما يَغْضَبُ، ويَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وتَنتَفِخُ أَودَاجُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي لأَعلَمُ كَلِمَةً لَو قَالَها لَذَهَبَ عَنْهُ ذَا: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَل تَدْرِي مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- آنِفاً، قَالَ: لاَ، قَالَ: إِنِّي لأَعلَمُ كَلِمَةً لَو قَالَها لَذَهَبَ عَنْهُ ذَا: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَمَجنُوناً تَرانِي))، إِنَّ الغَضَبَ غَرِيزَةٌ وطَبِيعَةٌ بَشَرِيَّةٌ، لاَ يُمكِنُ الإِستِغنَاءُ عَنْها ولاَ الإنفِلاَتُ مِنْها، بَيْدَ أَنَّ المَطلُوبَ، هُوَ التَّعبِيرُ عَنْهُ بِطَرِيقَةٍ حَضَارِيَّةٍ وأَرقَى أُسلُوبٍ، فَالتَّعبِيرُ عَنِ الغَضَبِ بِمَا يُدَمِّرُ ويُبِيدُ، ولاَ يَعْمُرُ ولاَ يُفِيدُ، لاَ يَقْضِي مَأْرَباً، ولاَ يُحَقِّقُ مَطْلَباً، فَضَرَرُهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ، ولَقَدْ حَرَصَ الإِسلاَمُ عَلَى الحَدِّ مِنَ الغَضَبِ، وذَلِكَ بِتَلاَفِي حُدُوثِهِ وتَلاَفِي آثَارِهِ بَعْدَ حُدُوثِهِ، فَحَثَّ عَلَى عَدَمِ التَّصرُّفِ فِي حَالَةِ الغَضَبِ بِرُدُود فِعلٍ سَرِيعَةٍ، لَها نَتَائجُ وَخِمَيةٌ وعَواقِبُ فَظِيعَةٌٍ. إِنَّ صَاحِبَ الصَّدْرِ الرَّحْبِ إِذَا أُوذِيَ صَبَرَ، وإِذَا غَضِبَ فَتَرَ، وإِذَا ظُلِمَ غَفَرَ، وإِذَا ظَلَمَ نَدِمَ واستَغفَرَ، وإِذَا حَاوَرَ تَقبَّلَ آرَاءَ الآخَرِينَ، فَهُوَ لاَ يَتَعَصَّبُ لِرأْيٍ، ولاَ يَثُورُ عَلَى رَأْيٍ مُخَالِفٍ، بَلْ يَزِنُ آرَاءَهُ وآرَاءَ الآخَرَينَ، ويُخْضِعُها جَمِيعاً لِلْفَحْصِ والتَّأَمُّلِ والتَّقْويمِ، لِيَصِلَ فِي النِّهَايَةِ إِلَى الرَّأْيِ الأَسلَمِ والحُكْمِ القَوِيمِ، إِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى اختِلاَفِ الآرَاءِ عَلَى اعتِبارِ أَنَّهُ أَفْضَلُ طَرِيقَةٍ لِلْوُصُولِ إِلَى الحَقِيقَةِ، إِنَّ الحِوارَ المَوضُوعِيَّ، واتِّباعَ أُسلُوبِ البَحْثِ العِلْمِيِّ، والتَّقيُّدَ بِآدَابِ الحِوارِ، يُبْعِدُ الإِنْسَانَ المُحاوِرَ عَنِ الغَضَبِ، المُؤدِّي إِلَى العُنْفِ والتَّعَصُّبِ، واللَّذَانِ يُؤدِّيانِ بِالضَّرورَةِ إِلَى تَدَخُّلِ الشَّيْطَانِ الذِي يُضَخِّمُ الأُمُورَ اليَسِيرَةَ؛ لِتَبقَى مُهِمَّةُ الوَحْدَةِ والوِفَاقِ عَسِيرَةً، وقَدْ يَنفَضُّ مَجلِسُ الحِوارِ دُونَ الوُصُولِ إِلَى قَرارٍ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، واعلَمُوا أَنَّ صَاحِبَ الصَّدْرِ الرَّحْبِ يَتَسلَّحُ بِالصَّبْرِ والأَنَاةِ وضَبْطِ النَّفْسِ، فَلاَ يَتَسرَّعُ فِي الاتِّهامِ، ولاَ يَتَعَجَّلُ فِي إِصْدارِ الأَحكَامِ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (12).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة النور / 22.
(2) سورة الأعراف / 199 .
(3) سورة الشورى/ 40 .
(4) سورة الشورى /43.
(5) سورة آل عمران / 133-134.
(6) سورة فصلت / 34 .
(7) سورة الأعراف / 60.
(8) سورة الأعراف / 61 .
(9) سورة الأعراف / 66 .
(10) سورة الأعراف / 67 .
(11) سورة الفرقان / 63 .
(12) سورة الأحزاب / 56 .
خطبة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
سَعَةُ صَدْرِكَ رِفْعَةٌ لِـقَدْرِكَ
الحَمْدُ للهِ الذِي حَثَّنَا عَلَى العَفْوِ والحِلْمِ، وجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مُقتَضَياتِ العَقلِ والعِلْمِ، سُبْحَانَهُ يَغْفِرُ فَيَسْتُرُ عَلَى عَبْدِهِ المُنِيبِ ذُنُوبَهُ، ويَحْلُمُ فَلاَ يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ، ويُكْرِمُ فَيُضَاعِفُ المَثُوبَةَ، أَحْمَدُهُ تَعالَى بِمَا هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، مَنْ عَفَا وصَفَحَ ابتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ؛ غَفَرَ اللهُ لَهُ وأَوْرَثَهُ جَنَّاتِهِ، حَيْثُ قَالَ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ: ((وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))(1)، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِكُلِّ عَزِيمَةٍ وَمَضَاءٍ، وقَابَلَ الإِيذَاءَ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ والإِغْضَاءِ، -صلى الله عليه وسلم- وعَلَى آلهِ وأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، والتَّابِعينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْد، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ المُؤمِنَ الحَقَّ هُوَ مَنْ يَتَّسِعُ صَدْرُهُ لِهَفَواتِ الآخَرِينَ، وأَغْلاَطِ الجَاهِلينَ، فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ مُلْتَمِساً لَهُمُ الأَعْذارَ وإنْ فُقِدَتْ، بَاحِثاً لَهُمْ عَنِ المُبَرِّراتِ وإِنْ عُدِمَتْ، شِعَارُهُ الذِي لاَ يَبتَعِدُ عَنْهُ ولاَ يُفَارِقُهُ، بَلْ يُلاَزِمُهُ دَائماً ويُرَافِقُهُ: ((صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، واعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ))، وهُوَ شِعَارُ الأَنْبِياءِ، وسَبِيلُ العُقَلاَءِ، ومَنْهَجُ النُّبَلاَءِ، لِهَذَا أَمَرَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ))(2)، وَقَدْ فَسَّرَها جِبْريلُ عَنْ رَبِّ العَالَمِينَ فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَعفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ))، ولَقَدْ ضَمِنَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِكُلِّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وتَحَلَّى بِتِلْكَ السِّمَاتِ جَزاءً عَظِيماً وأَجْراً كَرِيماً، فَقَالَ تَبارَكَ وتَعالَى: ((فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ))(3)، ولاَ يَعقِدُ النِّيَّةَ عَلَى العَفْوِ والصَّبْرِ ويَثْبُتُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ قَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ، وتَفَوَّقَتْ عَلَى نَفْسِهِ إِرَادَتُهُ، فَاعتَبَرَ إِسَاءَةَ أَخِيهِ لَهُ هَفْوَةً وَزَلَّةً وكَبْوَةً، فَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْها، ولَمْ يَبقَ فِي قَلْبِهِ أثَرٌ مِنْها، بَلْ ارتَقَى وتَفَوَّقَ، وسَما وتَأَلَّقَ، فَقَابَلَ إِسَاءَةَ أَخِيهِ الإِنْسانِ بِالصِّلَةِ والمَحَبَّةِ والإِحْسَانِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ))(4)، إنَّ كَظْمَ الغَيْظِ عِنْدَ حُدوثِ دَواعِيهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، ومَنزِلَةٌ رَاقِيَةٌ، وأَعلَى مِنْها وأَرقَى، وخَيْرٌ وأَبقَى، العَفْوُ عَمَّنْ أَسَاءَ، وأَعلَى مِنْهُما وأَرقَى دَرَجَةً الإِحْسَانُ إِلَيهِ، لِهَذَا أَعَدَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِِمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ، وتَرَقَّى فِي هَذِهِ الدَّرَجاتِ جَنَّاتٍ يَتَبَوَّأُ فِيها أَعلَى الدَّرَجاتِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))(5)، ويَقَولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُشْرِّفُ اللهُ بِهِ البُنْيَانَ ويَرفَعُ بِهِ الدَّرَجاتِ؟ قَالوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: تَحْلُمُ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْكَ، وتَعفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ)).
أَيُّها المُسلِمونَ :
كَمْ عَدَاوَةٍ تَأْصَّلَتْ، وطَالَ أَمَدُها فَتَمكَّنَتْ، حَتَّى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ألاَّ أَمَلَ فِي الإِصْلاَحِ ولاَ رَجَاءَ، أَحَالَها التَّسَامُحُ والتَّعَامُلُ بِالتِي هِي أَحْسَنُ إِلَى صَدَاقَةٍ مَتِينَةٍ، ومَحَبَّةٍ مَكِينَةٍ، تَحَطَّمَتْ أَمَامَها كُلُّ العَوائِقِ والسُّدودِ، وانْمَحَى بِسَبَبِها كُلُّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الإِعْراضِ والصُّدُودِ، يَقُولُ اللهُ الوَاحِدُ المَعْبُودُ: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))(6)، وقَدْ سُئِلَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ هَذِهِ الآيَةِ مَا مَعْنَاها؟ فَقَالَ: ((هُوَ الرَّجُلُ يَشْتُمُهُ أَخَوهُ فَيَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فَغَفَرَ اللهُ لِي، وإِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَغَفَرَ اللهُ لَكَ))، لَقَدْ بَلَغَ رُسُلُ اللهِ -عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- مِنْ سَعَةِ الصَّدْرِ مَبلَغاً جَعَلَهُم يَردُّونَ عَلَى أَقْذَعِ الشَّتَائِمِ وأَسْوأِ العِبَاراتِ، بِالصَّفْحِ الجَمِيلِ وأَسلَمِ الكَلِماتِ، لَقَدْ اتَّهَمَ قَوْمُ نُوحٍ نُوحاً -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بِالضَّلاَلِ، فَلَمْ يَزِدْ رَسُولُ اللهِ نُوحٌ عَلَى أَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِنَفْيِ الضَّلاَلَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وإِعلاَمِهِمْ بِرِسَالَتِهِ، دُونَ أَنْ يَصِمَهُمْ بِلَفْظٍ جَارِحٍ، أَو يَعِيبَهُمْ بِعَيْبٍ قَادِحٍ، لَقَدْ قَالُوا لَهُ: ((إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))(7)، فَأَجَابَهُمْ: ((يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))(8)، واتَّهَمَ قَوْمُ هُودٍ هُوداً -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَرَمَوْهُ بَالسَّفَاهَةِ والكَذِبِ، فَأْحْسَنَ رَسُولُ اللهِ هُودٌ المَقَالَةَ، ولَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ السَّفَاهَةَ، وأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الرِّسَالَةَ، لَقَدْ قَالَ لَهُ قَومُهُ: ((إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ))(9)، فَأَجَابَهُمْ: ((يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))(10)، وَكَانَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- يَتَعَرَّضُ أَحْياناً لِسَفَاهَةِ بَعْضِ السُّفَهاءِ؛ فَيُقَابِلُ سَفَاهَتَهُمْ بِكَلِمَاتٍ تَنْضَحُ حَنَاناً ولُطْفَاً، وشَفَقَةً وعَطْفاً، لَقَدْ أَلْجَأَ بَعْضُهُمْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى حُفْرَةٍ فَوَقَعَ فِيها؛ مِمَّا أَدَّى إِلَى إِدْمَاءِ وَجْهِهِ وكَسْرِ رُباعِيَّتِهِ، فَبَدَلَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ دَعَا لَهُمْ بِأَنْ يُصلِحُ اللهُ أَمْرَهُمْ، وزَادَ فِي سَعَةِ صَدْرِهِ فَعَذَرَهُم، فَقَالَ: ((اللهُمَّ اهْدِ قَومِي فَإِنَّهُم لاَ يَعلَمُونَ)) ، ورَمَاهُ البَعْضُ مَرَّةً بِعَدَمِ العَدْلِ فِي قِسْمَةٍ قَسَمَها فَقَالَ لَهُ: اعْدِلْ، فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةً مَا أُرِيدَ بِها وَجْهُ اللهِ، فَلَمْ يَزِدْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَوابِهِ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ قَالَ لَهُ: ((وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلْ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟))، وَذكَّرَ نَفْسَهُ بِمَا رُمِيَ بِهِ فَقَالَ: ((خِبْتُ وخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ)).
أَيُّها المُسلِمُونَ :
إِنَّ سَعَةَ الصَّدْرِ وضَبْطَ النَّفْسِ حِينَ يَتَعرَّضُ الإِنْسَانُ لِلَفْظَةٍ مَاجِنَةٍ، وكَلِمَةٍ مُستَهْجَنَةٍ، هِيَ شَارَةُ الجَمَالِ الخُلُقِيِّ والاعتِدالِ النَّفْسِيِّ، ولِذَلِكَ وَضَعَها اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي مُقَدِّمَةِ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحمَنِ، فَقَالَ كَما جَاءَ فِي سُورَةِ الفُرقَانِ: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً))(11)، فَكَلِمَةُ "سَلاَماً" سَلِمَ الإِنْسَانُ بِها مِنَ الإِثْمِ، وسَلِمَ بِها مِنَ الَّلوْمِ، وسَلِمَ بِها مِنْ سُوءِ العَاقِبَةِ، وبَرْهَنَ بِها عَلَى تَمتُّعِهِ بِآدَابٍ عَالِيَةٍ، وتَحَلِّيِهِ بِأَفْكَارٍ ثَاقِبَةٍ، وأَنَّهُ صَاحِبُ نَفْسٍ كَبِيرَةٍ حَمَتْهُ مِنْ أَنْ يَهْبِطَ ويَهْفُوَ، وحَمَلَتْهُ عَلَى أَنْ يَصفَحَ ويَعفُوَ، إِنَّ الوَقْتَ عِنْدَ هَذَا الإِنْسَانِ العَاقِلِ غَالٍ وثَمِينٌ ونَفِيسٌ، لِذَلِكَ ضَنَّ بِهِ عَنْ أَنْ يُضَيِّعَهُ فِي رُدودٍ لاَ طَائلَ مِنْ وَرائِها، ولاَ جَدْوَى مِنْها، فَآثَرَ السَّلاَمَةَ بِالإِعْراضِ عَنْها، حَيْثُ هِيَ لَغْوٌ وهَدْرٌ لِلأَوقاتِ، لاَ يَجنِي المَرءُ مِنْ وَرائِها إِلاَّ النَّدَمَ والحَسَراتِ، ورَحِمَ اللهُ مَنْ سَكَتَ فسَلِمَ، أَو قَالَ حُسْناً فَغَنِمَ، لَيْسَ عَلَى صَوابٍ مَنْ يَعتَقِدُ أَنَّ سَعَةَ الصَّدْرِ وعَدَمَ الإِسَاءَةِ إِلَى مَنْ أَسَاءَ ضَعفٌ ومَهَانَةٌ، وذُلٌّ واستِكانَةٌ، ودُنُوٌّ فِي المَكَانَةِ، فَهَذا الإِعتِقادُ قَلْبٌ لِلأُمُورِ، إِذِ الحَقُّ والصَّوابُ هُوَ العَكْسُ، إِنَّ القُوَّةَ التِي يُثَمِّنُها الإِسلاَمُ ويَرفَعُ قَدْرَها ويُعظِمُ أَمْرَها ويَدْعُو إِلَيْها ويَحُثُّ عَلَيْها، هِيَ أَنْ يَقْوَى الإِنْسانُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الغَضَبِ؛ فَيُمْسِكُ زِمَامَها ويَشُدُّ لِجَامَها، لِيَحُولَ بَيْنَها وبَيْنَ شَهْوَةِ الانْتِصَارِ لَهَا، فَرُبَّ مُرِيدٍ للانْتِصارِ تَجَاوزَ الحَدَّ وَضَلَّ المَسَارَ، فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى البَوارِ والخَسَارِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّما الشَّدِيدُ الذِي يَملِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ))، وقَالَ عَلَيٌّ -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ-: ((إِذَا قَدَرْتََ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ العَفْوَ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ))، وقِيلَ: ((مَا قُرِنَ شَيءٌ إِلَى شَيءٍ أَزْيَنُ مِنْ حِلْمٍ إِلَى عِلْمٍ، ومِنْ عَفْوٍ إِلَى قُدْرَةٍ)).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَوَسِّعوا صُدَورَكُم؛ يُصلِحِ اللهُ أُمُورَكُم، ويُجْزِلْ لَكُمْ أُجُورَكُم، واعلَموا أَنَّ سَعَةَ الصَّدْرِ عُلُوُّ مَكَانَةٍ ورِفْعَةُ قَدْرٍ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ الغَضَبَ غَرِيزَةٌ فِي الإِنْسَانِ تَدْعُوهُ إِلَى دَفْعِ المُؤذِياتِ قَبلَ وقُوعِها، أَو الإِنْتِقامِ بَعْدَ حُدوثِها، ولَو تُرِكَ الأَمْرُ لِهَذِهِ الغَرِيزَةِ تَشُقُّ طَرِيقَها وتَأْخُذُ مَجْرَاها دُونَ إِصلاَحٍ وتَنقِيَةٍ وتَهْذِيبٍ وتَرقِيَةٍ، لَعَرَّتِ الإِنْسَانَ عَنْ عَقْلِهِ، فَلاَ تبقَى لَهُ بَصِيرَةٌ، وحِينَئذٍ قَدْ يَتصَرَّفُ تَصَرُّفاً أَو يَقُولُ كَلاَماً يُدَمِّرُ حَاضِرَهُ، بَل رُبَّما مُستَقبَلَهُ ومَصِيرَهُ، ورُبَّما صَارَ مِنَ العُصَاةِ المُعَانِدينَ، بِسبَبِ مُخالَفَتِهِ لأَوامِرِ اللهِ وأَوامِرِ إِمَامِ المُهتَدِينَ -صلى الله عليه وسلم- ، فَعَنْ سُلَيْمانَ بنِ صَرْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: استَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ أَحَدُهُما يَغْضَبُ، ويَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وتَنتَفِخُ أَودَاجُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي لأَعلَمُ كَلِمَةً لَو قَالَها لَذَهَبَ عَنْهُ ذَا: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَل تَدْرِي مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- آنِفاً، قَالَ: لاَ، قَالَ: إِنِّي لأَعلَمُ كَلِمَةً لَو قَالَها لَذَهَبَ عَنْهُ ذَا: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَمَجنُوناً تَرانِي))، إِنَّ الغَضَبَ غَرِيزَةٌ وطَبِيعَةٌ بَشَرِيَّةٌ، لاَ يُمكِنُ الإِستِغنَاءُ عَنْها ولاَ الإنفِلاَتُ مِنْها، بَيْدَ أَنَّ المَطلُوبَ، هُوَ التَّعبِيرُ عَنْهُ بِطَرِيقَةٍ حَضَارِيَّةٍ وأَرقَى أُسلُوبٍ، فَالتَّعبِيرُ عَنِ الغَضَبِ بِمَا يُدَمِّرُ ويُبِيدُ، ولاَ يَعْمُرُ ولاَ يُفِيدُ، لاَ يَقْضِي مَأْرَباً، ولاَ يُحَقِّقُ مَطْلَباً، فَضَرَرُهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ، ولَقَدْ حَرَصَ الإِسلاَمُ عَلَى الحَدِّ مِنَ الغَضَبِ، وذَلِكَ بِتَلاَفِي حُدُوثِهِ وتَلاَفِي آثَارِهِ بَعْدَ حُدُوثِهِ، فَحَثَّ عَلَى عَدَمِ التَّصرُّفِ فِي حَالَةِ الغَضَبِ بِرُدُود فِعلٍ سَرِيعَةٍ، لَها نَتَائجُ وَخِمَيةٌ وعَواقِبُ فَظِيعَةٌٍ. إِنَّ صَاحِبَ الصَّدْرِ الرَّحْبِ إِذَا أُوذِيَ صَبَرَ، وإِذَا غَضِبَ فَتَرَ، وإِذَا ظُلِمَ غَفَرَ، وإِذَا ظَلَمَ نَدِمَ واستَغفَرَ، وإِذَا حَاوَرَ تَقبَّلَ آرَاءَ الآخَرِينَ، فَهُوَ لاَ يَتَعَصَّبُ لِرأْيٍ، ولاَ يَثُورُ عَلَى رَأْيٍ مُخَالِفٍ، بَلْ يَزِنُ آرَاءَهُ وآرَاءَ الآخَرَينَ، ويُخْضِعُها جَمِيعاً لِلْفَحْصِ والتَّأَمُّلِ والتَّقْويمِ، لِيَصِلَ فِي النِّهَايَةِ إِلَى الرَّأْيِ الأَسلَمِ والحُكْمِ القَوِيمِ، إِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى اختِلاَفِ الآرَاءِ عَلَى اعتِبارِ أَنَّهُ أَفْضَلُ طَرِيقَةٍ لِلْوُصُولِ إِلَى الحَقِيقَةِ، إِنَّ الحِوارَ المَوضُوعِيَّ، واتِّباعَ أُسلُوبِ البَحْثِ العِلْمِيِّ، والتَّقيُّدَ بِآدَابِ الحِوارِ، يُبْعِدُ الإِنْسَانَ المُحاوِرَ عَنِ الغَضَبِ، المُؤدِّي إِلَى العُنْفِ والتَّعَصُّبِ، واللَّذَانِ يُؤدِّيانِ بِالضَّرورَةِ إِلَى تَدَخُّلِ الشَّيْطَانِ الذِي يُضَخِّمُ الأُمُورَ اليَسِيرَةَ؛ لِتَبقَى مُهِمَّةُ الوَحْدَةِ والوِفَاقِ عَسِيرَةً، وقَدْ يَنفَضُّ مَجلِسُ الحِوارِ دُونَ الوُصُولِ إِلَى قَرارٍ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، واعلَمُوا أَنَّ صَاحِبَ الصَّدْرِ الرَّحْبِ يَتَسلَّحُ بِالصَّبْرِ والأَنَاةِ وضَبْطِ النَّفْسِ، فَلاَ يَتَسرَّعُ فِي الاتِّهامِ، ولاَ يَتَعَجَّلُ فِي إِصْدارِ الأَحكَامِ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (12).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة النور / 22.
(2) سورة الأعراف / 199 .
(3) سورة الشورى/ 40 .
(4) سورة الشورى /43.
(5) سورة آل عمران / 133-134.
(6) سورة فصلت / 34 .
(7) سورة الأعراف / 60.
(8) سورة الأعراف / 61 .
(9) سورة الأعراف / 66 .
(10) سورة الأعراف / 67 .
(11) سورة الفرقان / 63 .
(12) سورة الأحزاب / 56 .
Marcadores:
para abrire clicar duas vezes
sábado, 29 de maio de 2010
Assinar:
Postagens (Atom)